1- خواطر حول معانى الآية الكريمة .
2- صور من رحمة النبى :
1- رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته .
2- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجاهل .
3- رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد.
4- رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين .
5- رحمته صلى الله عليه وسلم بالاطفال .
6- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء في الحرب والسلم .
7- رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوانات .
8- رحمته صلى الله عليه وسلم بالطيور.
9- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجمادات .
3- حاجة الناس الى الرحمة اليوم .
1- خواطر حول معانى الآية الكريمة :
قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء 107 ، وقال صلى الله عليه وسلم : { ياأيها الناس إنما انا رحمة مهداة } رواه الحاكم وصححه الألبانى عن أبى هريرة . فإن من مظاهر رحمة الله تعالى التى تجلت فى هذه الدنيا أن أرسل الله تعالى نبيه محمدا هدية هاديا للعالمين ؛ كى تتجلى فيه بعضا من مظاهر رحمة الله تعالى التى وسعت كل شىء ، وقد تعددت أقوال المفسرين في بيان المراد بالعالمين فقيل: هم الإنس والجن ، وقيل: جميع المخلوقات والكائنات الحية ، وقيل: العالمون ما سوى الله تعالى.
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في بيان العالمين في هذه الآية فى قوله: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع الناس ؛ فمَن آمن به سعد ، ومن لم يؤمن به أَمِن وسلم من الخسف والغرَق والاستئصال ، الذي كان يلحق بالأمم التي كذَّبتْ أنبيائها السابقين ، فكان بهذا الاعتبار رحمةً لهم . وقال آخرون : المراد بالعالمين المؤمنون خاصة حين أنقذهم الله – تعالى - برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفر وتوابعه في الدنيا ، وكان سببًا للسعادة التي وعدهم الله – تعالى - بها في الآخرة ، وهذه الرحمة ومظاهرها لا تتحقَّق إلا للمؤمنين.
يَبدو لي - واللَّه أعلم - أنَّ معنى الآية أبعد مما ذكر وأشمل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث في زمن كان العالم كله يعاني فيه من أزمة ظاهرة في القيم ، وأبرزها قيمة الرحمة ، فإن هذا الخُلُق كاد يكون معدومًا في العالم آنذاك ، ومظاهر هذا كثيرة ؛ فعند العرب كان وأد البنات ، والقتل لأسباب تافهة ، وربما قتل أحدهم الآخر دونما سبب . وفي المحيط الخارجي كانت ثقافة الرومان التي تقوم على القوَّة والبطش ولم يكن للرحمة فيها مكان ، وكانت بلاد الفرس ترزح تحت وطأة الطبقيَّة المَقيتة الَّتي حطَّمت الضعفاء والفقراء ، وفي الهند كانت المرأة تُحرَق حية مع زوجها بعد وفاته ، وكانت الحروب بين الشعوب مدمرة طاحنة تستمر عدة سنوات لا يرقب فيها فريق رحمًا ولا خلقًا.
في هذه الأجواء التي تفتقد الرحمة بِكُلّ معانيها ومظاهرها أرسل اللَّه – تعالى - النبيَّ مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلَّم - ليَنْشُرَ ثقافة الرحمة في العالم كله ، ومن أجل أن يضع أُسُسًا للتَّعامُلِ تكون فيها الرحمة غالبةً لِلخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة ؛ بل تكون فيها الحرب غير خالية من الرحمة.
وقد ظهرتْ هذه الثقافة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً ، فقد حثَّ على الرحمة ، ورغَّب فيها ، وذمَّ مَن قلَّل مِن شأنها ، وبيَّن للنَّاس جميعًا سَعَة هذه الرَّحْمة ، وتعدّد مظاهِرِها حتَّى شمِلَت - إلى جانب الإنسان صديقًا كان أو عدوًّا - الحيوانات والطيور.
فكانَتْ رِسالة النَّبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤشرًا على انتشار ثقافة جديدة في العالم كله ، هي ثقافة الرحمة ، وحق له بهذا أن يكون رحمة للعالمين.
2- صور من رحمة النبى :
أما صور ومظاهر الرحمة في حياته وسيرته مع أهله وأولاده وأقاربه وأصحابه ومع سائر الناس، بل مع الحيوان والطير، فإنه يصعب حصرها واستقصاؤها، ولكن سأعرض صوراً من رحمته صلى الله عليه وسلم، استقيتها من ثنايا سيرته، وإن كانت سيرته رحمة كلها ورفقاً وليناً وخلقاً كريماً، لا تملك إلا الإعجاب به وإن لم تكن من أتباعه بل حتى لو كنت من عدوه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بشخصية جذابة آسرة، ووصفت أخلاقه بأنها كانت معجزة، أي لا يملك أحدٌ من الناس أن يدانيها فضلاً عن أن يضاهيها، وكان كثيرٌ من المشركين الذين يقابلون محمداً ؛ لمحاولة إقناعه والتأثير عليه بترك دعوته، يخفقون في هذه المهمة وربما وقع بعضهم في شراك رحمته، وأعلن الإسلام على رؤوس الأشهاد، ويحضرني صورٌ وشواهد كثيرة من السيرة لا مجال لسردها.
1- رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته :
قال تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة128 ٍ أخرج مسلم (202) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى ». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ.
وعند البخارى (6304) ومسلم (199) والترمذى (3602) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى وَهِىَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ».
2- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجاهل:
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم ما رواه مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ». ».
ومن غرائب أخباره في الرفق واللين والرحمة بالمتعلمين قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ! فعند البخارى مختصرا (6025) ومسلم (285) عن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
3-رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد:
وتعال لنستمع إلى خادمه أنس رضي الله عنه يحدثنا عن رحمته وشفقته ولينه وعطفه وحنانه، وإن شهادة الخادم لصادقة، وخاصة أنس الذي خدمه تسع سنين، وكان معه كظله، في سائر أحواله، في حضره وسفره وصحته ومرضه وشبعه وجوعه، وبتقلب الأحوال تختبر أخلاق الرجال، فعند مسلم (2310) قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِى يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِى نَفْسِى أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِى بِهِ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِى السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَبَضَ بِقَفَاىَ مِنْ وَرَائِى - قَالَ - فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ « يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
هل تعرف آخر كلمات تفوَّه بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه وقد حضره الموت؟ عَنْ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ كَانَ آخِرُ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ». أخرجه أبو داود (5156) وهو صحيح ، إنه يوصي بالعبيد، وهو يعالج سكرات الموت!. وعند مسلم (1659) وأبى داود (5159) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ - فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا وفى رواية قال :فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ « أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ ».
4-رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين:
وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى المعوقين عقلياً، فعند مسلم (2326) عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً!. فَقَالَ: « يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ » فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا .
5- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال:
فهذا رجل بدوي غليظ القلب يدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنر تعليق البدوي عندما رأى رحمة الرسول الكريم بأولاده ومزاحه ولعبه معهم وتقبيله لهم! ففى الصحيحين عن ابى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » . وفى الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ »
وعند مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكانت تفيض عيناه لموتهم ففى الصحيحين عندما مات أحد أبناء بناته فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ واضربت نفسه رحمة وشفقة على موته فَقَالَ لَهُ سَعْد بن عبادة مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ».
6- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء في الحرب والسلم:
بل تجاوزت رحمته كل حد، وفاقت الوصف، وغلبت غضبه، وأطفأت غيظه في أشد المواقف وأفظعها، كيف؟ فعند البخارى(3231) ومسلم (1795) عن عُرْوَة بن الزبير أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » . ونحو هذا أو قريب منه ما رواه البخارى (2937) ومسلم(2524) عن أَبُى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا . فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ . قَالَ « اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ » وائْتِ بهم)). وكذلك كان محمد رحمة للكافرين، لأن الله سبحانه رفع عنهم العذاب بفضله وحرمته: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }الأنفال33 فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته! ورغم إيذائهم له واستهزائهم به ومحاولتهم قتله إلا إنه كان لا يدعو عليهم شفقةً عليهم بل يدعو لهم رأفة بهم، فعند مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ « إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ».
7- رحمته بالدواب والحيوانات:
وإذا كان الأوربيون يتباهون بالرفق بالحيوان، و يرعون القطط والكلاب، ليس عن رحمة، ولكن من أجل اللعب والتسلية، وإلا فبم تفسر مثلاً مصارعة الثيران التي تسفح فيها دماء ذلك الحيوان المسكين ؛ لاستجلاب المتعة إلى تلك القلوب الخاوية القاسية التي أفسدتها الحضارة الحديثة! أنا لا أدَّعي أن الرحمة نزعت من قلوب الأوربيين، ولكن ألا يدعو إلى التهمة وسوء الظن رفقهم المزعوم بالحيوان، وظلمهم ووحشيتهم مع بني الإنسان، وأقصد الإنسان في فلسطين والبوسنة والعراق وغوانتنامو وأخواتها! ألا يدعو ذلك إلى سوء الظن بالرفق المزعوم؟
فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان:و أخبر أصحابه عن امرأة دخلت النار بسبب تعذيبها هرة! ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِى هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خِشَاشِ الأَرْضِ »
وهذه رحمته صلى الله عليه وسلم بجمل: فعند أحمد وأبى داود (2549) بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ : فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ : « مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ». فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ : « أَفَلاَ تَتَّقِى اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ».
وعند أبى داود (2548) وابن خزيمة بسند صحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ : « اتَّقُوا اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً ».
وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الدواب والحيوانات لغير الغرض الذي خُلِقت من أجله : فكان ينهى عن إرهاق الحيوان بإيقافه وإطالة الجلوس عليه من غير ضرورة إلى ذلك فعند أحمد وصححه الألبانى عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ بن أنس عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمُ « ارْكَبُوهَا ساَلِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلاَ تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِىَّ لأَحَادِيثِكُمْ فِى الطُّرُقِ وَالأسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبَهَا وَأَكْثَرُ ذِكْراً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ ».
عند أبى داود (2567) والبيهقى وصححه الألبانى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ ».
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان حين الذبح : كان يأمر بالرفق والرحمة بالحيوان حتى وهو يُذبح، روى مسلم (1955) وغيره عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قال : ثنتان حفِظتُهُما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ».
وعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (( أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ! )) . رواه الطبراني في الكبير والأوسط والحاكم واللفظ له وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الألبانى .
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار: وإليك رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار نعم بالحمار، هذا الحيوان المسكين الذي يسب ويشتم ويضرب ويجلد دون أن تأخذهم به شفقة، يدافع عنه نبي الرحمة، ويقرر له حقوقه المادية والأدبية، وليسمع الظلمة الذين شمل جورهم وظلمهم الإنسان والحيوان والطير وسائر الدواب والهوام، وليتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، فعند مسلم (2118) وأبى داود (2564) واللفظ له جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِى وَجْهِهِ فَقَالَ « أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّى قَدْ لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِى وَجْهِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فِى وَجْهِهَا ». فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
8- رحمته بالطيور:
أخرج أبو داود (2675) ، (5268) وصححه الألبانى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ».
9-رحمته بالجمادات:
ولم تقتصر رحمته صلى الله عليه وسلم على الحيوانات ، بل تعدّت ذلك إلى الرحمة بالجمادات ، ففى الصحيح عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ .
وأخرج البخارى (2095) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِى غُلاَمًا نَجَّارًا . قَالَ « إِنْ شِئْتِ » . قَالَ فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِى صُنِعَ ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِى كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ ، فَنَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ الَّذِى يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ . قَالَ « بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ » .
وعند النسائى (1395) بإسناد صحيح عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ يَسْتَنِدُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ وَاسْتَوَى عَلَيْهِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ كَحَنِينِ النَّاقَةِ حَتَّى سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاعْتَنَقَهَا فَسَكَتَتْ.
وعند أحمد وصححه الألبانى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».
وبعد فالرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية ، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخيمة في هجير الأرض المحرق وبخاصة هذه الأيام والتى البشرية فيها لفي أشد الحاجة إلى حسن هذه الرحمة ونداها وهي حائرة شاردة في متاهات المادية وجحيم الحروب وجفاف الأرواح والقلوب .
3- حاجة الناس الى الرحمة :
إن رحمة المرء ولده ووالده وزوجه وقريبه رحمة فطرة، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ولكن الرحمة التي يكلفنا بها الإسلام هي الرحمة بالعامة، بأهل الأرض كافة، ويجعلها شرط اكتمال الإيمان، فليس بمؤمنٍ من لا يرحم روى الطبرانى بسند رجاله رجال الصحيح وحسنه الألبانى عن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تؤمنوا حتى تراحموا!) قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة)). فهي رحمة للخلق كافة، وتشمل جميع الناس دون قيدٍ أو استثناء، بدليل ما رواه أبو داود والترمذى وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ ». فالرحمة بالخلق شرطٌ لتحصيل رحمة الخالق .
ولو تراحم الناس لما كان بينهم مظلوم ولا بائس ولا محروم.. لو تراحم الناس لما اقتتلوا ولا سفكوا الدماء.. لو تراحم الناس لما تخاصموا ولما لجؤوا إلى المحاكم لحل النزاعات فيما بينهم.. لو تراحم الناس لسكنت النفوس.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) متفق عليه.
وروى الطبرانى بإسناد حسن عن ابن مسعود قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : << من لم يرحم من فى الأرض لم يرحمه من فى السماء >> .
روى أبو داود والترمذي بسند حسن عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ -صلى الله عليه وسلم- صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ « لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ ».
وعند مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. آل عمران: 159. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. التوبة: 128.
2- صور من رحمة النبى :
1- رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته .
2- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجاهل .
3- رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد.
4- رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين .
5- رحمته صلى الله عليه وسلم بالاطفال .
6- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء في الحرب والسلم .
7- رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوانات .
8- رحمته صلى الله عليه وسلم بالطيور.
9- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجمادات .
3- حاجة الناس الى الرحمة اليوم .
1- خواطر حول معانى الآية الكريمة :
قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء 107 ، وقال صلى الله عليه وسلم : { ياأيها الناس إنما انا رحمة مهداة } رواه الحاكم وصححه الألبانى عن أبى هريرة . فإن من مظاهر رحمة الله تعالى التى تجلت فى هذه الدنيا أن أرسل الله تعالى نبيه محمدا هدية هاديا للعالمين ؛ كى تتجلى فيه بعضا من مظاهر رحمة الله تعالى التى وسعت كل شىء ، وقد تعددت أقوال المفسرين في بيان المراد بالعالمين فقيل: هم الإنس والجن ، وقيل: جميع المخلوقات والكائنات الحية ، وقيل: العالمون ما سوى الله تعالى.
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في بيان العالمين في هذه الآية فى قوله: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع الناس ؛ فمَن آمن به سعد ، ومن لم يؤمن به أَمِن وسلم من الخسف والغرَق والاستئصال ، الذي كان يلحق بالأمم التي كذَّبتْ أنبيائها السابقين ، فكان بهذا الاعتبار رحمةً لهم . وقال آخرون : المراد بالعالمين المؤمنون خاصة حين أنقذهم الله – تعالى - برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفر وتوابعه في الدنيا ، وكان سببًا للسعادة التي وعدهم الله – تعالى - بها في الآخرة ، وهذه الرحمة ومظاهرها لا تتحقَّق إلا للمؤمنين.
يَبدو لي - واللَّه أعلم - أنَّ معنى الآية أبعد مما ذكر وأشمل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث في زمن كان العالم كله يعاني فيه من أزمة ظاهرة في القيم ، وأبرزها قيمة الرحمة ، فإن هذا الخُلُق كاد يكون معدومًا في العالم آنذاك ، ومظاهر هذا كثيرة ؛ فعند العرب كان وأد البنات ، والقتل لأسباب تافهة ، وربما قتل أحدهم الآخر دونما سبب . وفي المحيط الخارجي كانت ثقافة الرومان التي تقوم على القوَّة والبطش ولم يكن للرحمة فيها مكان ، وكانت بلاد الفرس ترزح تحت وطأة الطبقيَّة المَقيتة الَّتي حطَّمت الضعفاء والفقراء ، وفي الهند كانت المرأة تُحرَق حية مع زوجها بعد وفاته ، وكانت الحروب بين الشعوب مدمرة طاحنة تستمر عدة سنوات لا يرقب فيها فريق رحمًا ولا خلقًا.
في هذه الأجواء التي تفتقد الرحمة بِكُلّ معانيها ومظاهرها أرسل اللَّه – تعالى - النبيَّ مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلَّم - ليَنْشُرَ ثقافة الرحمة في العالم كله ، ومن أجل أن يضع أُسُسًا للتَّعامُلِ تكون فيها الرحمة غالبةً لِلخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة ؛ بل تكون فيها الحرب غير خالية من الرحمة.
وقد ظهرتْ هذه الثقافة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً ، فقد حثَّ على الرحمة ، ورغَّب فيها ، وذمَّ مَن قلَّل مِن شأنها ، وبيَّن للنَّاس جميعًا سَعَة هذه الرَّحْمة ، وتعدّد مظاهِرِها حتَّى شمِلَت - إلى جانب الإنسان صديقًا كان أو عدوًّا - الحيوانات والطيور.
فكانَتْ رِسالة النَّبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤشرًا على انتشار ثقافة جديدة في العالم كله ، هي ثقافة الرحمة ، وحق له بهذا أن يكون رحمة للعالمين.
2- صور من رحمة النبى :
أما صور ومظاهر الرحمة في حياته وسيرته مع أهله وأولاده وأقاربه وأصحابه ومع سائر الناس، بل مع الحيوان والطير، فإنه يصعب حصرها واستقصاؤها، ولكن سأعرض صوراً من رحمته صلى الله عليه وسلم، استقيتها من ثنايا سيرته، وإن كانت سيرته رحمة كلها ورفقاً وليناً وخلقاً كريماً، لا تملك إلا الإعجاب به وإن لم تكن من أتباعه بل حتى لو كنت من عدوه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بشخصية جذابة آسرة، ووصفت أخلاقه بأنها كانت معجزة، أي لا يملك أحدٌ من الناس أن يدانيها فضلاً عن أن يضاهيها، وكان كثيرٌ من المشركين الذين يقابلون محمداً ؛ لمحاولة إقناعه والتأثير عليه بترك دعوته، يخفقون في هذه المهمة وربما وقع بعضهم في شراك رحمته، وأعلن الإسلام على رؤوس الأشهاد، ويحضرني صورٌ وشواهد كثيرة من السيرة لا مجال لسردها.
1- رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته :
قال تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة128 ٍ أخرج مسلم (202) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى ». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ.
وعند البخارى (6304) ومسلم (199) والترمذى (3602) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى وَهِىَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ».
2- رحمته صلى الله عليه وسلم بالجاهل:
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم ما رواه مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ». ».
ومن غرائب أخباره في الرفق واللين والرحمة بالمتعلمين قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ! فعند البخارى مختصرا (6025) ومسلم (285) عن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
3-رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد:
وتعال لنستمع إلى خادمه أنس رضي الله عنه يحدثنا عن رحمته وشفقته ولينه وعطفه وحنانه، وإن شهادة الخادم لصادقة، وخاصة أنس الذي خدمه تسع سنين، وكان معه كظله، في سائر أحواله، في حضره وسفره وصحته ومرضه وشبعه وجوعه، وبتقلب الأحوال تختبر أخلاق الرجال، فعند مسلم (2310) قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِى يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِى نَفْسِى أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِى بِهِ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِى السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَبَضَ بِقَفَاىَ مِنْ وَرَائِى - قَالَ - فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ « يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
هل تعرف آخر كلمات تفوَّه بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه وقد حضره الموت؟ عَنْ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ كَانَ آخِرُ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ». أخرجه أبو داود (5156) وهو صحيح ، إنه يوصي بالعبيد، وهو يعالج سكرات الموت!. وعند مسلم (1659) وأبى داود (5159) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِى بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ - فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ « اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا وفى رواية قال :فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ « أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ ».
4-رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين:
وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى المعوقين عقلياً، فعند مسلم (2326) عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً!. فَقَالَ: « يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ » فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا .
5- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال:
فهذا رجل بدوي غليظ القلب يدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنر تعليق البدوي عندما رأى رحمة الرسول الكريم بأولاده ومزاحه ولعبه معهم وتقبيله لهم! ففى الصحيحين عن ابى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » . وفى الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ »
وعند مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكانت تفيض عيناه لموتهم ففى الصحيحين عندما مات أحد أبناء بناته فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ واضربت نفسه رحمة وشفقة على موته فَقَالَ لَهُ سَعْد بن عبادة مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ».
6- رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء في الحرب والسلم:
بل تجاوزت رحمته كل حد، وفاقت الوصف، وغلبت غضبه، وأطفأت غيظه في أشد المواقف وأفظعها، كيف؟ فعند البخارى(3231) ومسلم (1795) عن عُرْوَة بن الزبير أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » . ونحو هذا أو قريب منه ما رواه البخارى (2937) ومسلم(2524) عن أَبُى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا . فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ . قَالَ « اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ » وائْتِ بهم)). وكذلك كان محمد رحمة للكافرين، لأن الله سبحانه رفع عنهم العذاب بفضله وحرمته: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }الأنفال33 فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته! ورغم إيذائهم له واستهزائهم به ومحاولتهم قتله إلا إنه كان لا يدعو عليهم شفقةً عليهم بل يدعو لهم رأفة بهم، فعند مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ « إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ».
7- رحمته بالدواب والحيوانات:
وإذا كان الأوربيون يتباهون بالرفق بالحيوان، و يرعون القطط والكلاب، ليس عن رحمة، ولكن من أجل اللعب والتسلية، وإلا فبم تفسر مثلاً مصارعة الثيران التي تسفح فيها دماء ذلك الحيوان المسكين ؛ لاستجلاب المتعة إلى تلك القلوب الخاوية القاسية التي أفسدتها الحضارة الحديثة! أنا لا أدَّعي أن الرحمة نزعت من قلوب الأوربيين، ولكن ألا يدعو إلى التهمة وسوء الظن رفقهم المزعوم بالحيوان، وظلمهم ووحشيتهم مع بني الإنسان، وأقصد الإنسان في فلسطين والبوسنة والعراق وغوانتنامو وأخواتها! ألا يدعو ذلك إلى سوء الظن بالرفق المزعوم؟
فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان:و أخبر أصحابه عن امرأة دخلت النار بسبب تعذيبها هرة! ففى الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِى هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خِشَاشِ الأَرْضِ »
وهذه رحمته صلى الله عليه وسلم بجمل: فعند أحمد وأبى داود (2549) بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ : فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ : « مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ». فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ : « أَفَلاَ تَتَّقِى اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ».
وعند أبى داود (2548) وابن خزيمة بسند صحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ : « اتَّقُوا اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً ».
وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الدواب والحيوانات لغير الغرض الذي خُلِقت من أجله : فكان ينهى عن إرهاق الحيوان بإيقافه وإطالة الجلوس عليه من غير ضرورة إلى ذلك فعند أحمد وصححه الألبانى عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ بن أنس عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمُ « ارْكَبُوهَا ساَلِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلاَ تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِىَّ لأَحَادِيثِكُمْ فِى الطُّرُقِ وَالأسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبَهَا وَأَكْثَرُ ذِكْراً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ ».
عند أبى داود (2567) والبيهقى وصححه الألبانى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ ».
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان حين الذبح : كان يأمر بالرفق والرحمة بالحيوان حتى وهو يُذبح، روى مسلم (1955) وغيره عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قال : ثنتان حفِظتُهُما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ».
وعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (( أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ! )) . رواه الطبراني في الكبير والأوسط والحاكم واللفظ له وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الألبانى .
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار: وإليك رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار نعم بالحمار، هذا الحيوان المسكين الذي يسب ويشتم ويضرب ويجلد دون أن تأخذهم به شفقة، يدافع عنه نبي الرحمة، ويقرر له حقوقه المادية والأدبية، وليسمع الظلمة الذين شمل جورهم وظلمهم الإنسان والحيوان والطير وسائر الدواب والهوام، وليتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، فعند مسلم (2118) وأبى داود (2564) واللفظ له جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِى وَجْهِهِ فَقَالَ « أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّى قَدْ لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِى وَجْهِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فِى وَجْهِهَا ». فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
8- رحمته بالطيور:
أخرج أبو داود (2675) ، (5268) وصححه الألبانى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ».
9-رحمته بالجمادات:
ولم تقتصر رحمته صلى الله عليه وسلم على الحيوانات ، بل تعدّت ذلك إلى الرحمة بالجمادات ، ففى الصحيح عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ .
وأخرج البخارى (2095) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِى غُلاَمًا نَجَّارًا . قَالَ « إِنْ شِئْتِ » . قَالَ فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِى صُنِعَ ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِى كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ ، فَنَزَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ الَّذِى يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ . قَالَ « بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ » .
وعند النسائى (1395) بإسناد صحيح عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ يَسْتَنِدُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ وَاسْتَوَى عَلَيْهِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ كَحَنِينِ النَّاقَةِ حَتَّى سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاعْتَنَقَهَا فَسَكَتَتْ.
وعند أحمد وصححه الألبانى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».
وبعد فالرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية ، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخيمة في هجير الأرض المحرق وبخاصة هذه الأيام والتى البشرية فيها لفي أشد الحاجة إلى حسن هذه الرحمة ونداها وهي حائرة شاردة في متاهات المادية وجحيم الحروب وجفاف الأرواح والقلوب .
3- حاجة الناس الى الرحمة :
إن رحمة المرء ولده ووالده وزوجه وقريبه رحمة فطرة، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ولكن الرحمة التي يكلفنا بها الإسلام هي الرحمة بالعامة، بأهل الأرض كافة، ويجعلها شرط اكتمال الإيمان، فليس بمؤمنٍ من لا يرحم روى الطبرانى بسند رجاله رجال الصحيح وحسنه الألبانى عن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تؤمنوا حتى تراحموا!) قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة)). فهي رحمة للخلق كافة، وتشمل جميع الناس دون قيدٍ أو استثناء، بدليل ما رواه أبو داود والترمذى وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ ». فالرحمة بالخلق شرطٌ لتحصيل رحمة الخالق .
ولو تراحم الناس لما كان بينهم مظلوم ولا بائس ولا محروم.. لو تراحم الناس لما اقتتلوا ولا سفكوا الدماء.. لو تراحم الناس لما تخاصموا ولما لجؤوا إلى المحاكم لحل النزاعات فيما بينهم.. لو تراحم الناس لسكنت النفوس.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) متفق عليه.
وروى الطبرانى بإسناد حسن عن ابن مسعود قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : << من لم يرحم من فى الأرض لم يرحمه من فى السماء >> .
روى أبو داود والترمذي بسند حسن عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ -صلى الله عليه وسلم- صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ « لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ ».
وعند مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. آل عمران: 159. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. التوبة: 128.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق