ذم الدنيا .. والزهد فيها
1- تمهيد وتوطئة.
2- بيان حقيقة الدنيا وهوانها على الله .
3- بيان حقيقة الزهد فيها .
4- بيان اركان الزهد فيها.
5- الترغيب فى الزهد فى الدنيا والتقليل منها.
6- بيان فضل الجنة ونعيمها على الدنيا.
الحمد لله الذى أمرنا بالزهد فى الدنيا لنتفرغ لعبادته وهدانا بفضله لطريق الرشاد ورعايته أحمده وأشكره على آلائه الموروثة بعنايته وأشهد أن لا إله إلا الله المتفضل على من شاء من عباده بواسع نعمته وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله سيد أهل كرامته وعلى آله وصحابته أما بعد عباد الله :
1- تمهيد وتوطئة :
فيقول الله- تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64]، وقال- تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس24 ]
وروى مسلم (2957) ِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ – أى أحاطوا به من جانبه - فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ – أى ذاهب الأذن سواء من أصل الخلقة أو مقطوعها - مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَىْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ « أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ».
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها، تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك؛ لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله- تعالى- والخوف منه- سبحانه-.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، وتركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها.
2 - بيان حقيقة الدنيا وهوانها عند الله:
عند الترمذي (2320) وصححه الالبانى عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء>>.
وعند ابن ماجه (4112) وحسنه الالبانى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:<< إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم>>.
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبغوضة، ساقطة، لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين النَّاس أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله- تعالى- ملعون مبغوض عنده- سبحانه-.
قال- تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }[ الحديد: 20]، يحذر المولى- جلّ وعلا- عباده من الإنجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات إليها أو الإذعان إليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلَّت عنه؛ فهي حقيرة عند الله- عزّ وجلّ- كحقارة الميتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر، والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه- سبحانه-، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله تبارك وتعالى أبداً قال تعالى :{ فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير } الشورى: 7]، وقال تعالى :{ وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظُّلُمَات ولا النُّور . ولا الظلُّ ولا الحرور . وما يستوي الأحياءُ ولا الأمْواتُ } [فاطر:19-22] الأعمى هو من ضل عن منهج الله- تعالى- وركن إلى الدنيا واطمأنَّ لأنَّه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عزّ وجلّ-: }فإنَّها لا تعْمَى الأبْصَار ولكن تعْمى الْقُلُوبُ الَّتي في الصُّدور {الحج: 46]، وذلك لإعراضه عن ذكر الله- تعالى- فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموات موت كفر- والعياذ بالله-، قال- تعالى :}ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) { .طه : 124 -126)
3- بيان حقيقة الزهد في الدنيا:
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
4- بيان اركان الزهد:
عن يونس بن ميسرة قال :{ ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء }ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح ولهذا كان أبو سليمان يقول لا تشهد لأحد بالزهد فإن الزهد في القلب.
أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته فإن الله سبحانه وتعالى ضمن أرزاق عباده وتكفل بها كما قال تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6 وقال تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }الذاريات22 وقال تعالى {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }العنكبوت17 {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }العنكبوت60
وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل ، وعن على وابن مسعود قالا : إن أرجي ما يكون الرزق إذا قالوا ليس في الدنيا دقيق ، وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم.
وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلى يوم أصبح وليس عندي شيء وقيل لأبي حازم الزاهد ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر الثقة بالله واليأس مما في أيدي الناس وقيل له : أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثري وقال فضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل وقال: القنوع هو الزاهد وهو الغني فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغني الناس وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار رضي الله عنه كفي بالموت واعظا وكفي باليقين غني وكفي بالعبادة شغلا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسد أحدًا على رزق الله ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله تعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك ، وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .
والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقي له وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين وعند الترمذى (3502) والنسائي في الكبرى (6/106-10234) والحاكم (1/709-1934 ) وحسنه الالبانى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ لأَصْحَابِهِ « اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا >>
وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من زهد الدنيا هانت عليه المصيبات
والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها وقلة الرغبة فيها فإن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه كما اخرج الترمذى (2414) وصححه الألبانى عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : <<من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس>> .
5- الترغيب فى الزهد فى الدنيا والتقليل منها:
كان النبى صلى الله عليه وسلم يوصى اصحابه بالزهد فى الدنيا والتقليل منها حتى ينال العبد رضى الله ومحبته
روى ابن ماجه (4102) وحسنه الألبانى وغيره عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ: أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِىَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِىَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ازْهَدْ فِى الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ يُحِبُّوكَ ».
وروى أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الالبانى عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:<< ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى>>.
بل كان النبى صلى الله عليه وسلم يسلى الصحابة بأن ضيق الحياة عليهم وضيق الرزق لا يعنى أنه سخط من الله أو بغض بل على النقيض من ذلك فإن الله تعالى يحمى عبده الدنيا وزخارفها الفانية ، أخرج الترمذى (2036) وابن حبان (669) والحاكم (7464) والطبرانى (17) وإسناده رجاله ثقات عن قتادة بن النعمان أن رسول الله قال :<< إذا احب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل احدكم يحمى سقيمه الماء>>
وأخرج مسلم (2956) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ».
6 - فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا :
قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:200-201].
وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:144].
وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
وقد ورد لفظ (الدنيا) في كتاب الله تعالى في مائة وأربعة عشر موضعاً، وكذلك ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مائة وأربعة عشر موضعاً، والدنيا مذمومة في كتاب الله تعالى دائماً.
قال ابن مسعود : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال :<<من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى>>رواه أحمد وصححه الالبانى
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ ». رواه مسلم (2742) والترمذى (2191) وابن ماجه (4000) وغيرهم
وعن عمرة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة>>رواه الطبراني بإسناد حسن وصححه الالبانى
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:<<الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار>>
رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات وصححه الالبانى
ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.
اخرج مسلم (2807) واحمد والبيهقى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِى النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِى بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ».
ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.
قال: ابن عباس : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).
وذكر في الخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشياً فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زنية فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلست بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: ألك زوج؟ قالت: لي أزواج كثير فقال: أكلٌ طلقك؟ قالت: بل كل قتلتُ، فقال: أحزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم، ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
فمتاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق- تبارك وتعالى - بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها
ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة:
أولاً: متاع الدنيا قليل، قال - تعالى -: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) [النساء: 77].
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه رواى مسلم(2858) والترمذى (2323) وابن ماجه(4108)
عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم( وأشار يحيى بن يحيى بالسبابة) فلينظر بم يرجع >>
. ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
ولما كان متاع الدنيا قليلاً، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة (يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) [التوبة: 38].
الثاني: هو أفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها،
عند البخارى (3250) والترمذى(1648) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » .
وفي الحديث الآخر الذي قارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا عندالبخارى (2796)والترمذى (1651) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ يَدِهِ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ».
الثالث: الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها (بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون) [الصافات: 46-47] وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه (أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) [محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال - تعالى -: (ولهم فيها أزوج مطهرة) [البقرة: 25].
وقلوب أهل الجنة صافيه، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، (لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور: 23]، ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا (لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا) [النبأ: 35]، (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما) [مريم: 62]، (لا تسمع فيها لاغية) [الغاشية: 11]، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأوشاب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاما) [الواقعة: 25-26].
ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي البخارى (3245) ومسلم (2834)في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا » . وصدق الله إذ يقول: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
والغل: الحقد، وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم. ولعلهم استفادوا هذا من قوله - تعالى -: (وسقاهم ربهم شراباً طهورا) [الإنسان: 21]. (6)
الرابع: نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق- تبارك وتعالى -ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) [النحل: 96]، (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) [ص: 54]، (أكلها دائم وظلها) [الرعد: 35]، وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا) [الكهف: 45 46].
فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوى ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع...كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوى ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً، والأموال والأولاد قد يذهبون، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله، أما الآخرة فلا رحيل، ولا فناء، ولا زوال (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار) [النحل: 30-31].
الخامس: العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185].
فعلى كل عاقل منا ان يعمل لآخرته الباقية ولا تشغله الفانية عن الباقية فيحرص على جمع الأموال من هنا ومن ههنا من حله وحرامه حتى تصبح الدنيا أكبرهمه وينسى أخراه فلا يزيده الله إلا هما كما عند ابن ماجه ( 4105) بإسناد صحيح عن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ ».
وعند ابن ماجه (257) ، (4106) وحسنه الألبانى عنَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود قال : سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ الْمَعَادِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِى أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِى أَىِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ ».
كل ذلك الحرص على الدنيا وهو لا يعلم أنه لا يبقى معه الا عمله كما عند البزار وصححه الالبانى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:<< مثل ابن آدم وماله وأهله وعمله كرجل له ثلاثة إخوة أو ثلاثة أصحاب فقال أحدهم أنا معك حياتك فإذا مت فلست منك ولست مني وقال الآخر أنا معك فإذا بلغت تلك الشجرة فلست منك ولست مني وقال الآخر أنا معك حيا وميتا>>
فيظل مشغولا بالدنيا وزخرفتها وينسى لقاء الله تعالى فينساه الله يوم القيامة فيتركه فى العذاب كما عند الترمذى (2428) وصححه الالبانى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالاً وَوَلَدًا وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ يَوْمَكَ هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ لَهُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِى ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ « الْيَوْمَ أَنْسَاكَ ». يَقُولُ الْيَوْمَ أَتْرُكُكَ فِى الْعَذَابِ. هَكَذَا فَسَّرُوهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذِهِ الآيَةَ (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ) قَالُوا إِنَّمَا مَعْنَاهُ الْيَوْمَ نَتْرُكُهُمْ فِى الْعَذَابِ.>>
1- تمهيد وتوطئة.
2- بيان حقيقة الدنيا وهوانها على الله .
3- بيان حقيقة الزهد فيها .
4- بيان اركان الزهد فيها.
5- الترغيب فى الزهد فى الدنيا والتقليل منها.
6- بيان فضل الجنة ونعيمها على الدنيا.
الحمد لله الذى أمرنا بالزهد فى الدنيا لنتفرغ لعبادته وهدانا بفضله لطريق الرشاد ورعايته أحمده وأشكره على آلائه الموروثة بعنايته وأشهد أن لا إله إلا الله المتفضل على من شاء من عباده بواسع نعمته وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله سيد أهل كرامته وعلى آله وصحابته أما بعد عباد الله :
1- تمهيد وتوطئة :
فيقول الله- تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64]، وقال- تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس24 ]
وروى مسلم (2957) ِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ – أى أحاطوا به من جانبه - فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ – أى ذاهب الأذن سواء من أصل الخلقة أو مقطوعها - مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَىْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ « أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ».
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها، تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك؛ لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله- تعالى- والخوف منه- سبحانه-.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، وتركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها.
2 - بيان حقيقة الدنيا وهوانها عند الله:
عند الترمذي (2320) وصححه الالبانى عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء>>.
وعند ابن ماجه (4112) وحسنه الالبانى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:<< إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم>>.
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبغوضة، ساقطة، لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين النَّاس أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله- تعالى- ملعون مبغوض عنده- سبحانه-.
قال- تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }[ الحديد: 20]، يحذر المولى- جلّ وعلا- عباده من الإنجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات إليها أو الإذعان إليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلَّت عنه؛ فهي حقيرة عند الله- عزّ وجلّ- كحقارة الميتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر، والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه- سبحانه-، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله تبارك وتعالى أبداً قال تعالى :{ فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير } الشورى: 7]، وقال تعالى :{ وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظُّلُمَات ولا النُّور . ولا الظلُّ ولا الحرور . وما يستوي الأحياءُ ولا الأمْواتُ } [فاطر:19-22] الأعمى هو من ضل عن منهج الله- تعالى- وركن إلى الدنيا واطمأنَّ لأنَّه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عزّ وجلّ-: }فإنَّها لا تعْمَى الأبْصَار ولكن تعْمى الْقُلُوبُ الَّتي في الصُّدور {الحج: 46]، وذلك لإعراضه عن ذكر الله- تعالى- فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموات موت كفر- والعياذ بالله-، قال- تعالى :}ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) { .طه : 124 -126)
3- بيان حقيقة الزهد في الدنيا:
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
4- بيان اركان الزهد:
عن يونس بن ميسرة قال :{ ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء }ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح ولهذا كان أبو سليمان يقول لا تشهد لأحد بالزهد فإن الزهد في القلب.
أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته فإن الله سبحانه وتعالى ضمن أرزاق عباده وتكفل بها كما قال تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6 وقال تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }الذاريات22 وقال تعالى {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }العنكبوت17 {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }العنكبوت60
وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل ، وعن على وابن مسعود قالا : إن أرجي ما يكون الرزق إذا قالوا ليس في الدنيا دقيق ، وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم.
وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلى يوم أصبح وليس عندي شيء وقيل لأبي حازم الزاهد ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر الثقة بالله واليأس مما في أيدي الناس وقيل له : أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثري وقال فضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل وقال: القنوع هو الزاهد وهو الغني فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغني الناس وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار رضي الله عنه كفي بالموت واعظا وكفي باليقين غني وكفي بالعبادة شغلا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسد أحدًا على رزق الله ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله تعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك ، وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .
والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقي له وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين وعند الترمذى (3502) والنسائي في الكبرى (6/106-10234) والحاكم (1/709-1934 ) وحسنه الالبانى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ لأَصْحَابِهِ « اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا >>
وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من زهد الدنيا هانت عليه المصيبات
والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها وقلة الرغبة فيها فإن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه كما اخرج الترمذى (2414) وصححه الألبانى عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : <<من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس>> .
5- الترغيب فى الزهد فى الدنيا والتقليل منها:
كان النبى صلى الله عليه وسلم يوصى اصحابه بالزهد فى الدنيا والتقليل منها حتى ينال العبد رضى الله ومحبته
روى ابن ماجه (4102) وحسنه الألبانى وغيره عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ: أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِىَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِىَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ازْهَدْ فِى الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ يُحِبُّوكَ ».
وروى أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الالبانى عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:<< ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى>>.
بل كان النبى صلى الله عليه وسلم يسلى الصحابة بأن ضيق الحياة عليهم وضيق الرزق لا يعنى أنه سخط من الله أو بغض بل على النقيض من ذلك فإن الله تعالى يحمى عبده الدنيا وزخارفها الفانية ، أخرج الترمذى (2036) وابن حبان (669) والحاكم (7464) والطبرانى (17) وإسناده رجاله ثقات عن قتادة بن النعمان أن رسول الله قال :<< إذا احب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل احدكم يحمى سقيمه الماء>>
وأخرج مسلم (2956) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ».
6 - فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا :
قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:200-201].
وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:144].
وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
وقد ورد لفظ (الدنيا) في كتاب الله تعالى في مائة وأربعة عشر موضعاً، وكذلك ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مائة وأربعة عشر موضعاً، والدنيا مذمومة في كتاب الله تعالى دائماً.
قال ابن مسعود : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال :<<من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى>>رواه أحمد وصححه الالبانى
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ ». رواه مسلم (2742) والترمذى (2191) وابن ماجه (4000) وغيرهم
وعن عمرة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة>>رواه الطبراني بإسناد حسن وصححه الالبانى
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:<<الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار>>
رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات وصححه الالبانى
ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.
اخرج مسلم (2807) واحمد والبيهقى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِى النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِى بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ».
ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.
قال: ابن عباس : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).
وذكر في الخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشياً فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زنية فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلست بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: ألك زوج؟ قالت: لي أزواج كثير فقال: أكلٌ طلقك؟ قالت: بل كل قتلتُ، فقال: أحزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم، ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
فمتاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق- تبارك وتعالى - بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها
ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة:
أولاً: متاع الدنيا قليل، قال - تعالى -: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) [النساء: 77].
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه رواى مسلم(2858) والترمذى (2323) وابن ماجه(4108)
عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:<< ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم( وأشار يحيى بن يحيى بالسبابة) فلينظر بم يرجع >>
. ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
ولما كان متاع الدنيا قليلاً، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة (يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) [التوبة: 38].
الثاني: هو أفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها،
عند البخارى (3250) والترمذى(1648) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » .
وفي الحديث الآخر الذي قارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا عندالبخارى (2796)والترمذى (1651) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ يَدِهِ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ».
الثالث: الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها (بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون) [الصافات: 46-47] وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه (أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) [محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال - تعالى -: (ولهم فيها أزوج مطهرة) [البقرة: 25].
وقلوب أهل الجنة صافيه، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، (لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور: 23]، ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا (لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا) [النبأ: 35]، (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما) [مريم: 62]، (لا تسمع فيها لاغية) [الغاشية: 11]، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأوشاب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاما) [الواقعة: 25-26].
ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي البخارى (3245) ومسلم (2834)في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا » . وصدق الله إذ يقول: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) [الحجر: 47].
والغل: الحقد، وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم. ولعلهم استفادوا هذا من قوله - تعالى -: (وسقاهم ربهم شراباً طهورا) [الإنسان: 21]. (6)
الرابع: نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق- تبارك وتعالى -ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) [النحل: 96]، (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) [ص: 54]، (أكلها دائم وظلها) [الرعد: 35]، وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا) [الكهف: 45 46].
فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوى ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع...كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوى ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً، والأموال والأولاد قد يذهبون، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله، أما الآخرة فلا رحيل، ولا فناء، ولا زوال (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار) [النحل: 30-31].
الخامس: العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185].
فعلى كل عاقل منا ان يعمل لآخرته الباقية ولا تشغله الفانية عن الباقية فيحرص على جمع الأموال من هنا ومن ههنا من حله وحرامه حتى تصبح الدنيا أكبرهمه وينسى أخراه فلا يزيده الله إلا هما كما عند ابن ماجه ( 4105) بإسناد صحيح عن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ ».
وعند ابن ماجه (257) ، (4106) وحسنه الألبانى عنَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود قال : سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ الْمَعَادِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِى أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِى أَىِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ ».
كل ذلك الحرص على الدنيا وهو لا يعلم أنه لا يبقى معه الا عمله كما عند البزار وصححه الالبانى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:<< مثل ابن آدم وماله وأهله وعمله كرجل له ثلاثة إخوة أو ثلاثة أصحاب فقال أحدهم أنا معك حياتك فإذا مت فلست منك ولست مني وقال الآخر أنا معك فإذا بلغت تلك الشجرة فلست منك ولست مني وقال الآخر أنا معك حيا وميتا>>
فيظل مشغولا بالدنيا وزخرفتها وينسى لقاء الله تعالى فينساه الله يوم القيامة فيتركه فى العذاب كما عند الترمذى (2428) وصححه الالبانى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالاً وَوَلَدًا وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ يَوْمَكَ هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ لَهُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِى ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ « الْيَوْمَ أَنْسَاكَ ». يَقُولُ الْيَوْمَ أَتْرُكُكَ فِى الْعَذَابِ. هَكَذَا فَسَّرُوهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذِهِ الآيَةَ (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ) قَالُوا إِنَّمَا مَعْنَاهُ الْيَوْمَ نَتْرُكُهُمْ فِى الْعَذَابِ.>>
جزاكم الله خيرا على افضالكم لهذه الخطبة العجيبة
ردحذف